قليلاً ما يتم النظر لأفلام الكرتون سوى باعتبارها وسيلة لإمتاع الأطفال وإشغالهم عن أمهاتهم وتمضية الوقت في شيء مسلٍ وآمن، دون الالتفات إلى التأثير الكبير الذي تحدثه في المجتمع.
إن أفلام الكرتون ليست فقط منتجات للتسلية، بل تسهم في إعادة كتابة التاريخ وتشكيل تصورات الأجيال الصغيرة، عبر التأثير على خيالهم وإدراكهم لما حولهم، ورسم صورة الآخر في أذهانهم؛ سواء كان الآخر دولاً أو شعوباً أو حتى أفراد الجنس الآخر، وبالتالي تشكيل نظرتهم لأنفسهم وعلاقتهم بهذا الآخر؛ فقد اكتسبت تلك الأفلام دوراً في بناء القيم التي تحكم سلوك الأطفال طوال حياتهم، ولكل جيل شخصياته الكرتونية التي يتعلق بها.
تعكس أفلام الكرتون ثقافة منتجيها؛ ففي الكرتون الأمريكي تم تصوير الهنود الحمر قبائل همجية تهاجم السكان المتحضرين، للتغطية على حقيقة إبادة 112 مليوناً من هذه القبائل على يد الغزاة الأوروبيين، بينما تم تصوير المحتلين رعاة البقر Cowboy، كأبطال يتصدون للأعداء المتوحشين.
وخلال الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، كان للكرتون دور في إبراز التفوق الثقافي للغرب على النموذج الشرقي القمعي الخانق، لذلك موّلت المخابرات الأمريكية مثلاً فيلم الرسوم المتحركة «مزرعة الحيوان» الذي يُجسِّد رواية تحمل نفس الاسم لجورج أورويل، وكان الغرض من إنتاج هذه الرواية انتقاد نمط الحياة في المجتمع السوفيتي، من خلال إسقاط أحداث الرواية عليه.
حتى شخصية بطوط التي تبدو تافهة أكثر من اللازم، استُخدمت خلال الحرب العالمية لمهاجمة النازية الألمانية في فيلم «وجه الفوهرر»؛ إذ يظهر بطوط كعامل مطحون في مصنع للنازيين، لكنه يستيقظ من هذا الكابوس ليرنو ببصره إلى العلم الأمريكي وتمثال الحرية. وقد فاز هذا الفيلم بجائزة أوسكار لعام 1942. وكذلك أنتجت سلسلة لمغامرات بطوط في الجيش الأمريكي، واتخذ سلاح خفر السواحل الأمريكي صورته بوصفه شعاراً له لفترة من الوقت.
ومنذ عدة سنوات، حذر موقع «أمازون» الأمريكي، رواده من مشاهدة «توم وجيرى»، لأن العنصرية كامنة فيه؛ حيث يظهر الرجل والمرأة، أصحاب البيت، أبيضين، وتظهر أرجل الخادمة سوداء. و«توم وجيري» ليس استثناء، بل هو مجرد تعبير -ربما غير مقصود- عن سياق استعباد الأفارقة وتفوق العرق الأبيض على كل الأجناس البشرية واحتقارهم، وهذه الروح العنصرية لا تزال موجودة في قطاعات غربية كبيرة حتى اليوم، مدعومة من أحزاب اليمين المتطرف.
وخلال الفترة الأخيرة بدأ المنتجون الغربيون يصنعون مواد كارتون يتجاوزون بها أخطاء الماضي العنصري؛ حيث يظهر فيها أبطال سود البشرة بدلاً من اعتبار مقياس الجمال الوحيد العيون الزرقاء والبشرة البيضاء، لكن هذه الاتجاهات أيضاً تروج للتسامح مع المثلية الجنسية، بالترافق مع حملة غربية منظمة لتقبل المثلية داخل المجتمعات الرافضة لها، بخاصة دول العالم الإسلامي. وقد تعرضت هذه الأعمال للحظر في عديد من الدول.
استخدمت موسكو الرسوم المتحركة لتشرح للأطفال الروس سبب حربها الحالية في أوكرانيا؛ فالأطفال لا يستوعبون نظريات الجيوبوليتيك وتعقيدات العلاقة مع حلف الناتو، لكن عليهم أن يُقدِّروا تضحيات الجيش في المعركة، ويشعروا بالفخر به، وإلا ضعفت الروح القومية لديه.
وكان الأطفال الروس في العهد السوفيتي لا يشاهدون الكرتون الأمريكي، بل كانت لهم شخصياتهم الكرتونية الخاصة، الأقل إبهاراً وجاذبية من شخصيات ديزني.
وقد أولى الروس لاحقاً أهمية للرسوم المتحركة، فصنعوا منتجات جذابة قادرة على المنافسة عالمياً، مثل «ماشا والدب»، الذي حقق نسب متابعة عالمية كبيرة، حتى داخل الولايات المتحدة نفسها.
مثلما تتخذ روسيا من الدب رمزاً لها، يعتبر الباندا رمزاً صينياً مميزاً، وكان لهذا الحيوان -الذي لا يعيش إلا في الصين- رمزية كبيرة في إعادة بناء القوة الناعمة الصينية، في بداية عصر الانفتاح في السبعينيات، فيما عُرف بـ«دبلوماسية الباندا» Panda Diplomacy.
في السابق كان الحزب الشيوعي يمنع عرض أفلام الكرتون الغربية، خوفاً من تأثيرها على المجتمع الصيني المنغلق. لكن بعد رحيل الزعيم ماو ودخول الصين في الانفتاح تدريجياً، غزت المنتجات الإعلامية الأجنبية المجتمع الصيني، إلا أن هيئة تنظيم البث في الصين أعلنت عام 2021 أنها ستشجع المنتجين عبر الإنترنت، على إنتاج رسوم كرتون متحركة ليست ذات محتوى مبتذل أو إباحي أو عنيف.
لكن لبكين حساسياتها الخاصة؛ فلأنها تعتمد نظام حكم الفرد، حظرت سلطاتها أي صور خاصة بشخصية الدب ويني ذا بوو الكرتونية لأنه يشبه الرئيس الصيني شي جين بينغ. كذلك حاول الصينيون استغلال شهرة منتجات مرتبطة بتراثهم في الترويج لسياستهم القمعية؛ فبعد اتهامات الأمم المتحدة للصين بارتكاب جرائم إبادة ضد مسلمي إقليم تركستان الشرقية شينجيانغ، واجه فيلم «مولان» من إنتاج شركة ديزني عام 2020 انتقادات حادة، لأن الفيلم الذي كان إعادة إنتاج للفيلم الكرتوني القديم، تم تصويره في الإقليم المسلم، مما حسّن صورة الصين، ويعكس سيطرتها على هذه المنطقة التي يطالب أهلها بالاستقلال؛ حيث ظهر الإقليم كجزء من الصين القديمة على خلاف الحقيقة.
لليابان قصة فريدة في هذا الصدد؛ فقد استطاعت حجز مكانة ثقافية استثنائية عن طريق استثمارها في الرسوم المتحركة، وذلك لأسباب سياسية؛ فبعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، حظر عليها الحلفاء المنتصرون استخدام القوة العسكرية، وفرض عليها الأمريكيون حمايتهم، فبدأت في البحث عن أدوات مختلفة في سياستها الخارجية.
خلال الحرب الثانية وما قبلها ارتكبت اليابان مجازر وحشية وأعمالاً مروعة ضد جيرانها، جعلت صورتها الذهنية في الخارج ملطخة بالدماء ومرتبطة بالعنف والدمار، وبعد الحرب قررت كسر المشاعر المعادية لها في جنوب وشرق آسيا وتطوير علاقات ودية مع الجيران، وبدأت في تحسين صورتها الدولية، ولم يكن لها خيار سوى التركيز على الاقتصاد والثقافة والقوة الناعمة.
تمت دراسة دور الأنيمي في هذا المشروع السياسي، وتمكنت اليابان من تحويل منتجاتها الثقافية إلى سلع استهلاكية، وذاع انتشار الـ«مانجا»، وهي القصص المصوّرة اليابانية التقليدية، والـ«أنيمي» أي الأفلام والمسلسلات الكرتونية. وعلى الرغم من أهمية صناعة ألعاب الفيديو ومردودها الاقتصادي الكبير، إلا أن الأنيمي والمانجا صارا أكثر أهمية، لأن المحتوى الرئيسي للثقافة الشعبية اليابانية ينبع من هذين الفنين تحديداً، لذلك تم إعطاء اهتمام خاص لهما ضمن المشروع الاستراتيجي اليابان الرائعة Cool Japan، الذي يهدف لإعطاء صورة جذابة عن الدولة في الخارج.
نجحت اليابان في أن تصبح الدولة التي تصنع أكثر المنتجات إبداعاً في العالم بحصة تبلغ 36% في السوق العالمية، وعلى الرغم من ضعف أداء منتجات اليابان السينمائية والموسيقية بصفة عامة، يختلف الوضع في قطاعات الأنيمي والمانجا كثيراً؛ حيث تتمتع فيهما بتفوق مطلق.
استهدف مشروع اليابان الرائعة جعل الثقافة الشعبية اليابانية أداة قوة ناعمة في السياسة الخارجية، وتمت دراسة الأنيمي في المجالات الأكاديمية المختلفة، وبحث الجوانب النفسية لجمهور المعجبين بعالم الأنيمي، وطرق التأثير فيهم.
كان مفهوم القوة الناعمة هو حجر الزاوية في هذا المشروع؛ وهو يعني باختصار القدرة على تحديد تفضيلات الآخرين والتأثير على سلوكهم دون إكراه، وتبلور هذا المفهوم لاحقاً على يد أستاذ العلوم السياسية الأمريكي جوزيف ناي، مطلع التسعينيات، إذ أفاض في شرح أهمية تمتع الدول -ليس بالقوة فقط- بل بالاحترام والقوة الروحية ونيل إعجاب الأطراف الأخرى، مما يدفعهم إلى السير في ركابها طواعية.
يُظهِر ناي مثالاً على أهمية القوة الناعمة بعلاقة الوالدين بأطفالهما؛ إذ يمكن للأب والأم إبقاء الأطفال تحت السيطرة وتشكيل معتقداتهم وأولوياتهم، وقد تنجح الأساليب القمعية في إخضاعهم لفترة ما، لكنها تفقد تأثيرها على المدى الطويل، وقد تؤدي لأثر عكسي على الأطفال عندما يكبرون.
وهكذا تحسنت صورة اليابان في البلدان المجاورة، وزاد استهلاك منتجاتها، وكما فعلت قناة «سبيستون» مع منتجات الأنيمي، لم تنتج اليابان منتجاتها الخاصة فحسب، بل أعادت صبغ المنتجات الأجنبية بصبغتها المميزة، فتمت صياغة منتجات هوليوود وأعمال شكسبير بأسلوب الأنيمي.
خلقت الشعبية المتزايدة للأنيمي جمهوراً كبيراً من المعجبين حول العالم، وتأسست عديد من مجموعات المعجبين العالمية، وذاع انتشار الثقافة الشعبية اليابانية، وتعدى الأمر أفلام الكرتون فازدهرت تجارة الألعاب والأزياء المرتبطة بالأنيمي.
وأنتجت الجاذبية المتزايدة للأنيمي ظاهرة سياحة أوتاكو؛ حيث ظهر مفهوم أوتاكو لأول مرة في عام 1983، وهي كلمة تعني المهووس؛ إذ نظم عشاق الأنيمي زيارات إلى المدن التي تظهر في أفلام الأنيمي المفضلة لديهم، وتبدو هذه الزيارات كنوع من الحج المقدس، مما ساعد على إنشاء مجموعات اجتماعية وقنوات اتصال جديدة. وتدفق السياح على حي أكيهابارا في طوكيو الذي يشتهر ببيع منتجات الأنيمي والأوتاكو. وفي عام 2007، تجاوزت شعبية أكيهابارا شعبية طوكيو ديزني لاند.
ومن شدة ارتباط بعض المعجبين الشباب بهذه الرسوم المتحركة بدؤوا يرون شخصيات الأنيمي الخيالية كأصدقاء لهم، ويبحثون عن علاقات روحية معهم، ويرون في المسلسل الذي يعجبون به نوعاً من الإرشاد الروحي وليس وسيلة لتمضية الوقت والتسلية.
انتشرت الظاهرة بسرعة في جميع أنحاء العالم وخلقت مجتمعاتها الخاصة، واليوم يُطلق على المعجبين المتطرفين الذين لا يريدون الخروج من عالم الأنيمي والمانجا كلمة أوتاكوس ويتم وصفهم بأنهم غالباً منطوون، ولديهم روابط اجتماعية ضعيفة وقليل جداً من الأصدقاء.
لم تبدأ هذه القصة من الصفر بعد الحرب العالمية الثانية، بل حاولت اليابان خلال توسعها الاستعماري في عشرينيات القرن الماضي استخدام الفن ضمن القواسم الثقافية المشتركة مع دول جنوب شرقي آسيا لإقناعهم بالتوحد معها في مواجهة الغرب.
يعود تاريخ المانجا إلى العصور القديمة، وكانت تُرسم على لفائف وتتضمن رسومات لبعض الحيوانات كالضفادع والقرود والثعالب، ودخل المحتوى الديني إليها بمرور الوقت، لكن بعد الحرب العالمية تم إلباسها ثوباً جديداً لتصبح منتجاً عالمياً.
مع سيطرة ديزني الأمريكية على صناعة الرسوم المتحركة، قررت طوكيو إنشاء أستوديوهات توي أنيميشن الشهيرة Toei Animation، لتكون بمثابة ديزني الشرق، فأنتجت سلاسل ناجحة مثل «دراجون بول» و«أبطال الديجيتال» وغيرها.
في عام 1972، تأسست مؤسسة اليابان بهدف تطوير علاقات ودية مع العالم، وفي السبعينيات كانت دول جنوب شرقي آسيا ثاني أكبر سوق تصدير لليابان وارتبطت بها بعلاقات وثيقة. وبعد تورط الأمريكيين الدموي في حرب فيتنام، قلّصوا وجودهم العسكري في جنوب شرقي آسيا، وحمّلوا حليفتهم اليابان مزيداً من المسئولية عن استقرار المنطقة، فحاولت أن تتجنب إعادة إنتاج الصورة السلبية لها وركزت على الوسائل السلمية.
وفي بداية التسعينيات انهار الاتحاد السوفيتي، وبدأت الأنظمة الشيوعية المنغلقة في الاندماج في الرأسمالية العالمية، وكانت اليابان مستعدة لاستغلال الموقف، فاجتهدت في تصدير نموذجها للشعوب والدول المتطلعة للتقدم، وأصبحت نموذجاً يُحتذى به، ومع تطور وسائل الإعلام والتواصل، تجاوز التأثير الثقافي الياباني منطقة شرق آسيا، وانتشر بسرعة في جميع أنحاء العالم، ووجدت المنتجات الإعلامية اليابانية سوقاً في الدول الغربية وغيرها. وفي عام 2003، أُعيد تنظيم مؤسسة اليابان لتواكب التحديات العالمية.
ومع الغزو الأمريكي لأفغانستان 2001 والعراق 2003، زاد النفور العالمي من النموذج الأمريكي الغاشم، وزاد التعاطف مع اليابان وقوتها الناعمة، وخلق هذا فرصاً اقتصادية للشركات اليابانية، ومهّد الطريق أمام منتجاتها في الأسواق العالمية، وبات واضحاً أن فكرة القوة الناعمة التي ارتبطت بالولايات المتحدة في نظر كثيرين، صارت مرتبطة باليابان بشكل كبير.
ارتبط الكرتون أيضاً بالقضية الفلسطينية، فبينما أنتج الاحتلال الإسرائيلي رسوماً متحركة لشحن الجيل اليهودي الناشئ بالتعصب وتخليد ذكرى القادة الصهاينة، مثل الحاخام المتطرف مائير كهانا وغيره، استخدمت المقاومة الفلسطينية الرسوم المتحركة أيضاً لتوعية الأجيال الصغيرة بالقضية وشحن مشاعرهم ضد جرائم الاحتلال.
وسبق أن تسبب مسلسل كرتوني عرضته قناة «الأقصى» الفضائية، التابعة لحركة حماس، في إثارة اعتراضات إسرائيلية حادة، واستمرت القناة في عرضه رغم مطالبة وزير إعلام السلطة الفلسطينية بوقفه.
ووصفت الجمعية الإسرائيلية «بالستينيان ميديا ووتش» التي ترصد وسائل الإعلام الفلسطينية، البرنامج المسمى «فرفور» بأنه يغسل أدمغة الأطفال، وأن شخصيات فرفور وسارة لا يفوتان فرصة لبث الكراهية ضد إسرائيل والولايات المتحدة ويشددان على ضرورة دعم المقاومة.
وكذلك استخدمت حركة حماس مقاطع الكرتون لتوصيل رسائلها إلى الجمهور الإسرائيلي كما حدث إبان أسر الجندي جلعاد شاليط، وحينها بثت أكثر من مقطع للضغط من أجل إبرام صفقة تبادل مربحة للمقاومة، وهو ما تم بالفعل. وأحياناً أخرى بثت المقاومة أفلام كرتون قصيرة للسخرية من خصومها الفلسطينيين الذين ينسقون أمنياً مع قوات الاحتلال في الضفة الغربية.
إجمالاً، يمكن القول إن الرسوم المتحركة رسّخت وجودها منذ القرن الماضي وحتى وقتنا هذا، كإحدى أهم أدوات القوة الناعمة في العلاقات الدولية، وبالتالي انطلق سباق سياسي/ثقافي لاستغلال هذه الأداة لدعم الصورة الذهنية وأهداف السياسة الخارجية لكل دولة. في سباق أشبه بسباقات التسلح. بخاصة وأن التقدم التكنولوجي سرّع من انتشار منتجات الرسوم المتحركة، وصارت كل الثقافات والطبقات الاقتصادية، حول العالم، قادرة على الوصول إلى أي محتوى ثقافي، وعلى رأسه، الرسوم المتحركة.